يقول الحافظ رحمه الله: عند رواية: {فو الله لئن قدر الله علي} "قال الخطابي: قد يستشكل هذا فيقال: كيف يغفر له وهو منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى؟" لأنه قال: (لئن قدر الله عليَّ)، حتى وإن لم يذكر لفظ القدرة فإنه قد أوصى أبناءه أن يحرقوه؛ ظناً منه أن هذا الشيء سيخلصه من البعث والحساب.
لقد كان يرى أنه وقع في مأزق عظيم.. فالموت أدركه وحضره، وصفحته كلها سوداء، وديوانه كله خطايا، وتذكر شدة عذاب الله سبحانه وتعالى، وتذكر أن أمامه كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وملائكةً يكتبون ما يفعل ولن يظلموه شيئاً، وميزاناً ينصب يوم القيامة: ((وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ))[الأنبياء:47]، وعرضاً على الله سبحانه وتعالى، ووقوفاً بين يديه.. تذكر هذه المعاني كلها، فظن أن لا مخرج له أبداً، وأمام هذا الضيق والكرب والشدة والبحث عن حلٍّ؛ أوصى بهذه الوصية.
إذاً: هو يظن أن هذه الوصية سوف تنجيه من عذاب الله، وأنهم إن فعلوا به ذلك فلن يقف بين يدي الله ولن يسأله الله؛ لأنه قد تفرق في البر والبحر وذهبت به الريح في كل مكان وانتهى أمره.
فهو -على حسب الاستشكال الذي أورده الخطابي رحمه الله- منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى، قال الخطابي: "والجواب: أنه لم ينكر البعث"؛ لأنه لو كان منكراً للبعث لما خاف من لقاء الله عز وجل، فهو معترف ومصدق بالبعث، لكن الخطأ والخلل جاء من ظنه أن هذه الحيلة سوف تنجيه من البعث.
يقول الخطابي: "وإنما جهل فظن أنه إذا فعل به ذلك لا يعاد فلا يعذب، وقد ظهر إيمانه باعترافه بأنه إنما فعل ذلك من خشية الله"، فإيمانه واضح، إذ قد قال: (خشيتك يا رب). (مخافتك يا رب)، يقول الحافظ: "قال ابن قتيبة " وهو أديب أهل السنة كما أن الجاحظ أديب المعتزلة ". قال: "قد يغلط في بعض الصفات قوم من المسلمين فلا يكفرون بذلك"، وهذه العبارة انتصر لها وأيدها شيخ الإسلام رحمه الله، فقوله: (قد يغلط في بعض الصفات قوم من المسلمين)، فليس كل مسلم لابد أن يكون محيطاً بجميع صفات الله، فقد يغلط، وهذا شيء وارد، لكنه قال: (في بعض الصفات)، وقال: (قوم من المسلمين)، أي أن هناك أسباباً؛ إما لجهلهم، وإما لغير ذلك، فلتلك الأسباب يقع بعض المسلمين في الخطأ أو الغلط في بعض الصفات، فليس هذا من باب الإنكار والجحود، فلا يكفرون بذلك.
وهنا تقام عليهم الحجة، وتكشف لهم الشبهة، ويبين لهم. وإن كان الأصل أن جحد الصفات كفر بلا شك، لكن قد يغلط من يغلط في ذلك، فلهذا قلنا: إن المُعَيَّن لا يُسرع في الحكم عليه، فربما يكون جاهلاً، وربما يكون مخطئاً.. فليس كالجاحد إنكاراً، الذي يكفر بها رداً وتكذيباً.
  1. ذكر من أول قوله: (لئن قدر الله علي)

    قال الحافظ : "ورده ابن الجوزي -أي: رد كلام ابن قتيبة- وقال: جحده صفة القدرة كفر اتفاقاً"، أي: ما دام أنه جحد القدرة، وأن الله لا يقدر على جمعه وبعثه؛ لأنه ظن أن الله لن يقدر على بعثه بعد أن يطحنوه ويذروه؛ فإن هذا كفر اتفاقاً. قال: "وإنما قيل: إن معنى قول: (هلئن قدر الله عليَّ) أي: ضيّق"، وهذه هي التأويلات، فإذا أخرجنا اللفظ عن ظاهره فلابد من تأويله، وهناك عدة تأويلات:
    التأويل الأول: قوله: (لئن قدر الله عليَّ) أي: ضيق، قال ابن الجوزي: "وهي كقوله: ((وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ))[الطلاق:7] أي: ضيق".
    التأويل الثاني: قال: "ولعل هذا الرجل قال ذلك من شدة جزعه وخوفه، كما غلط ذلك الآخر فقال: {اللهم أنت عبدي وأنا ربك}" والجواب عن التأويل الأول سنذكره عندما نذكر كلام شيخ الإسلام، وأما التأويل الثاني: فإن هناك فرقاً بين الرجلين؛ إذ إن صاحب الدابة عندما قال: {اللهم أنت عبدي وأنا ربك} أخطأ في اللفظ فقط، أما في المعنى فهو يريد أن يقول: (اللهم أنت ربي وأنا عبدك)، لكنه من شدة الفرح أخطأ لسانه، أما هذا فإنه قال: (أحرقوني ثم اسحقوني..) إلخ، فهو معتقد من قلبه وجازم على الفعل، ومصمم عليه ومريد له، إذ قال: افعلوا بي هذا الفعل حتى لا يبعثني ربي ولا يجازيني.
    إذاً: الفرق بينهما واضح، فليس حكمهما واحداً.
    التأويل الثالث: قال: "أو يكون قوله: (لئن قدَّر عليَّ) -بتشديد الدال- أي: قدَّر علي أن يعذبني ليعذبني"، أي: إن كان مقدراً علي العذاب، وقد قضى الله بأني أعذب، فإني سوف أعذب عذاباً لا يعذبه أحد قبلي.
    وهذا التأويل يخرج الحديث عن معناه؛ لأنه لا فائدة حينئذ من حرقه وطحنه وذره في الريح؛ لأنه إن كان كتب عليه العذاب فسيعذب؛ سواء طحنوه أو لم يطحنوه، أحرقوه أو لم يحرقوه، فهذا الكلام إذاً ليس له معنى، وقد رد عليه شيخ الإسلام رداً علمياً كما سنذكره.
    التأويل الرابع: قال: "أو على أنه كان مثبتاً للصانع، وكان في زمن الفترة، فلم تبلغه شرائط الإيمان"، وهذا تأويل غير صحيح؛ لأنه كان من بني إسرائيل، وقد قال: أسرفتُ على نفسي بالمعاصي، وما ادخرتُ خيراً قط، فهذا دليل على أنه عارف بأمر الله، عالم بشرع الله، فكيف يقال بأنه من أهل الفترة؟!
    يقول الحافظ رحمه الله: "وأظهر الأقوال: أنه قال ذلك في حال دهشته وغلبة الخوف عليه، حتى ذُهب بعقله لما يقول"، أي: لم يعد يعقل حقيقة ما يقول، قال: "ولم يقله قاصداً لحقيقة معناه؛ بل في حالة كان فيها كالغافل والذاهل والناسي، الذي لا يؤاخذ بما يصدر منه"، فهذا الرجل عند الموت غلب عليه الخوف حتى نسي ما عدا ذلك، وقد يأتي على بعض الناس حالة يذكر فيها الرجاء المطلق وينسى الخوف، في حال الموت وفي غيره، لكن هذا لأنه في حال الموت ولإسرافه في الذنوب والمعاصي؛ كان ذلك أليق به أن يكون أكثر ذهولاً ونسياناً لقدرة الله سبحانه وتعالى، فهو لا ينكر أن الله على كل شيء قدير، ولا ينكر البعث بعد الموت، لكن لشدة خوفه من البعث أمر أبناءه أن يفعلوا به ذلك، فهو موقن أن البعث سيكون، لكنه ظن أن هذه حيلة يمكن أن ينجو بها من العذاب فيتلافى البعث.
    يقول الحافظ : "وأبعد الأقوال قول من قال: إنه كان في شرعهم جواز المغفرة للكافر"، وهذا كلام بعيد؛ إذ كيف يجوز أن يغفر الله للكفار؟ وعلى هذا التأويل لن يكون للحديث معنى، لكن يظل معناه وموعظته وعبرته قائمة على الاحتمال الصحيح: أن الخوف من الله عز وجل هو الذي حمله على ذلك.